انفجار مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس آب 2020. رويترز
 انفجار مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس آب 2020. رويترز

مع اشتداد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في لبنان، تداعت عدة مؤسسات بحثية إلى إصدار دراسات حول ارتفاع نسب الهجرة في البلاد، خاصة في أوساط الشباب. إحدى تلك المؤسسات أشارت إلى هجرة نحو 230 ألفا خلال الأشهر الأربعة الماضية، وهو رقم هائل إذا ما تمت مقارنته بأعداد السكان.

"عندما تزوجت قبل 12 عاما، كانت أحلامي وطموحاتي كلها مرتبطة بلبنان. كنت أحلم ببناء عائلة سعيدة وتطوير عملي وتأمين حياة كريمة لأولادي، كأي رب أسرة طبيعية في أي مكان في العالم. لكن يبدو أن حتى تلك الأحلام الطبيعية والأساسية ممنوعة علينا في لبنان"، بهذه العبارة يبدأ علي (42 عاما) تبريره لفكرة الهجرة عن وطنه إلى مكان آخر لم يحدده، "أي بلد يمكنني أن أشعر به بالأمان فقط، الأمان لبناتي وزوجتي. لا أريد أن أغفو يوميا على كوابيس الاشتباكات، وأصحو على صراخ السياسيين ورعب سيطرة المصارف على شقاء عمري".

علي كغيره من الآلاف من اللبنانيين، يفكر بالهجرة إلى بلد آخر، بعد التدهور المستمر للأوضاع المعيشية في لبنان واستفحال أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الاشتباكات المسلحة الأخيرة التي وقعت في منطقة الطيونة (جنوب بيروت)، أعادت إحياء أشباح الحرب الأهلية في نفوس من عايشوها كبارا وصغارا، ودفعت بغالبيتهم للعمل بجدية بالغة للهجرة بعيدا، إما لتحقيق حياة أفضل أو بحثا عن مستقبل حقيقي لأولادهم.

لميا، من سكان منطقة بدارو المحاذية للطيونة، سردت لمهاجر نيوز جزءا من ذكرياتها عن الحرب الأهلية التي عاشتها وهي طفلة، "استيقظت يوم الاشتباكات على صوت هاتفي الجوال، أصدقاء لي كانوا ينصحوني بمغادرة المنطقة فورا. لم أكن أعلم ما يجري ولم أتابع الأخبار منذ مدة. بدأت بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت عبارة عن صفحات ومنشورات من الحرب الأهلية لكنها بتاريخ اليوم. شعرت بالذعر وأول ما خطر ببالي أولادي".

وتضيف "كان زوجي قد أوصل الأولاد إلى المدرسة في الصباح قبل أن يتوجه لعمله. لبست ثيابي وجمعت أغراضي الأساسية وأوراق رسمية ومجوهرات وبعض الأموال، وضعتها كلها في شنطة وهممت بالخروج من المنزل. لم أفكر كثيرا، أعتقد أن ردة الفعل تلك لازمتني في اللاوعي إذ كانت أمي تقوم بذلك في كل مرة كانت تشتد فيها الاشتباكات بالقرب من منزلنا. لم يجاريني الوقت وبدأت أسمع أصوات الرصاص والقذائف".

أما علي، الذي يقطن منطقة الشياح حيث امتدت الاشتباكات لاحقا، فقال "لحظة اندلاع الاشتباكات احتضنت بناتي وجلست أنا وإياهم وزوجتي في الممر. كنت أحاول إلهاءهن بعيدا عن أصوات الرصاص إلى أن لمعت في ذاكرتي صورة من طفولتي، كانت أمي تجلسني في هذه النقطة بالذات خلال الحرب الأهلية عند وقوع الاشتباكات، لم أتمالك نفسي وانفجرت بالبكاء. لم أهتم بمتابعة الأخبار ولا بانتهاء الاشتباكات، في مساء ذلك اليوم حزمت حقيبة الأساسيات، التي تحوي الأوراق الرسمية ومصاغ زوجتي وبعض الأموال، قررت أن الهجرة طريقنا الوحيد. اليوم أنا أتأهب للذهاب لقبرص".

وشهدت بيروت اشتباكات مسلحة منتصف الشهر الجاري على خلفية التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت والانقسام السياسي الحاد بين الأحزاب والزعامات السياسية والطائفية، في ظل أزمة اقتصادية حادة صنفها البنك الدولي بأنها "الأكثر شراسة منذ منتصف القرن التاسع عشر".

230 ألفا هاجروا خلال 4 أشهر!

ما سبق جزء من لسان حال الكثير من اللبنانيين ممن فقدوا الأمل بتحصيل حياة كريمة في بلدهم، فباتت الهجرة خيارهم الوحيد بحثا عن الحياة الأفضل.

إحصائيات وأرقام نشرتها دور ومؤسسات بحثية في لبنان تظهر شمولية ذلك الخيار لدى شرائح واسعة من اللبنانيين. مؤسسة "لابورا" المعنية برصد مشاكل الفقر والبطالة في لبنان، أوردت أن نحو 230 ألف مواطن هاجروا خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري.

الأب طوني خضرا، رئيس المؤسسة، قال في تصريح لإذاعة "صوت لبنان" الخاصة إن "العامل الطائفي يقف في صدارة أسباب تصاعد هجرة اللبنانيين".

وأورد أن "90% من اللبنانيين الحاملين لجنسيات أجنبية غادروا لبنان في أيلول/سبتمبر الماضي، بهدف الهجرة خارج البلاد".

وأكد خضرا أن الهجرة طالت أيضا قطاع الأعمال والتجارة، حيث أن هناك مجموعة كبيرة من الأشخاص ممن نقلوا أعمالهم إلى خارج لبنان لانعدام الحاجات الأساسية كالكهرباء والماء وغياب الأمن، بالإضافة إلى أزمة الأموال والمصارف.

77% من شباب لبنان يفكرون بالهجرة

"مرصد الأزمة"، وهو مؤسسة بحثية تابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، نشر تقريرا الشهر الجاري تحدث فيه عما وصفه بـ”موجة الهجرة الثالثة”، مع الارتفاع الملحوظ بمعدلات الهجرة والساعين إليها منذ أشهر.

ووفقا للتقرير، شهد لبنان موجتين سابقتين، الأولى أواخر القرن 19 وحتى الحرب العالمية الأولى (1865 – 1916)، هاجر خلالها نحو 330 ألف شخص. أما الموجة الثانية فكانت خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990)، التي سجلت هجرة حوالي 990 ألف شخص.


وذكر التقرير ثلاثة مؤشرات "مقلقة" حول الموجة الثالثة، أولها ارتفاع الرغبة بالهجرة عند الشباب اللبناني حيث أشار إلى أن 77% منهم يفكرون بالهجرة ويسعون إليها، وهذه النسبة الأعلى بين كل البلدان العربية حسب تقرير “استطلاع رأي الشباب العربي” الصادر العام الماضي.

ويُقدر البنك الدولي أن البطالة طالت شخصا من كل خمسة في لبنان، وأن 61% من الشركات قلصت موظفيها الثابتين بمعدل 43%.

أما المؤشر الثاني فهو هجرة الكفاءات والمهنيين، خاصة العاملين في القطاعين الصحي والتعليمي.

وكانت نقابة الممرضات والممرضين أصدرت تقديرات تفيد بهجرة 1,600 ممرض وممرضة منذ 2019. كما هاجر المئات من المعلمين والأكاديميين، حيث سجلت الجامعة الأمريكية في بيروت وحدها رحيل 190 أستاذا خلا عام واحد، يشكلون حوالي 15% من جسمها التعليمي.

والمؤشر الثالث هو توقع طول أمد الأزمة اللبنانية، فالبنك الدولي يُقدر أن لبنان يحتاج بأحسن الأحوال إلى 12 عاما ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام 2017، وبأسوأ الأحوال إلى 19 عاما.

74% من سكان لبنان يعانون من الفقر

وتتفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان مع انهيار قيمة الرواتب بالعملة المحلية الليرة، حيث بات سعر صرف الدولار الواحد يساوي 20 ألف ليرة لبنانية، في حين أن الحد الأدنى للأجور بات يناهز 30 دولارا في الشهر. في المقابل، ارتفعت أسعار السلع والمواد الغذائية بشكل هائل لتخطى حاجز الـ600%.

ووفقا لإحصائيات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الأسكوا"، تضاعفت نسبة الفقر في لبنان من 28% عام 2019 إلى 55% حتى أيار\مايو 2020. كما ازدادت نسبة الفقر المدقع من 8% إلى 23%.


وهذه النسب قريبة إلى حد كبير مع تقديرات البنك الدولي التي أشارت إلى أنه حتى منتصف 2020، بلغت نسبة الفقر في لبنان 52%.

وأعلنت الأمم المتحدة في دراسة بحثية -صدرت في أيلول/سبتمبر الماضي، أن 74% من سكان لبنان يعانون من الفقر في 2021، في حين لا توجد إحصاءات رسمية حول نسبة الهجرة في لبنان.

ويشهد لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، تتزامن مع شحّ الدولار وفقدان العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها، وارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة، فضلا عن شح الوقود وانقطاع التيار الكهربائي والمياه معظم ساعات اليوم.

وحذّر باحثون مرارا من تداعيات عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في لبنان على موجات هجرة الشباب، التي قد تهدد بدورها مستقبل بلد يضم نحو 4 ملايين ويعيش خارجه نحو 16 مليونا.

 

للمزيد