مهاجران على شاطئ مدينة جرجيس التونسية المقابلة للقارة الأوروبية. الصورة: دانا البوز /مهاجرنيوز
مهاجران على شاطئ مدينة جرجيس التونسية المقابلة للقارة الأوروبية. الصورة: دانا البوز /مهاجرنيوز

"غامرنا بحياتنا هربا من الجحيم الليبي لكننا وجدنا أنفسنا عالقين في جحيم جديد"، خلاصة توصل إليها مهاجرون مضى على وجودهم سنوات عدة في الجنوب التونسي، بعدما كانوا في ليبيا. يعتبر البعض أن "لا جدوى من البقاء" في البلد المنهك اقتصاديا، وشعور اللاجئين بعدم قدرتهم على بدء حياة آمنة أو عبور المتوسط المكلف ماديا.

دانا البوز، موفدة خاصة إلى جنوب تونس

تعج شوارع مدينة جرجيس الساحلية، جنوب تونس، بمقاهي يجد فيها الشباب بعض التسلية، بينما تتركز الفنادق السياحية في منطقة منفصلة تطل مباشرة على الشاطئ. لهذه المدينة وجه مختلف في ساعات الصباح الأولى، حيث يتجمع في ساحة صغيرة عشرات الشباب المهاجرين منتظرين مرور أحد السكان الباحثين عن عمال في مجال البناء أو الزراعة.

العثور على عمل هو أحد التحديات التي يواجهها المهاجرون في هذه المدينة، فلا يحصل جميعهم على دعم مادي، ومن يحصل على تلك المساعدة يشتكي أنها لا تكفيه.

للمزيد>>> مهاجرون بين ليبيا وتونس.. "نهرب من جحيم إلى آخر بين البحر والصحراء" (1/2)

صورة من أحد شوارع مدينة جرجيس الساحلية
صورة من أحد شوارع مدينة جرجيس الساحلية


لوران راغان، ممثل مفوضية اللاجئين في تونس أوضح لمهاجرنيوز أن الدعم المادي موجه للفئات الضعيفة (المرضى والنساء الحوامل والقاصرين)، ويبلغ حوالي 250 دينار تقريبا ويختلف وفق وضع الشخص، دون إعطاء المزيد من التفاصيل.

"لا نشعر بالأمان"

في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 75 ألف، يوجد مركزي إيواء فقط تديرهما مفوضية اللاجئين، لا يتسعان لأكثر من 200 شخص كحد أقصى، بينما تدير المنظمة الدولية للهجرة مركزا آخر يتسع لنحو 100 شخص. وأوضح راغان أن المفوضية تستأجر 75 شقة (في مختلف المدن التونسية) لإيواء بعض الحالات الخاصة.

يقف لاجئ سوداني ثلاثيني برفقة صديقيه أمام أحد المركزين التابعين لمفوضية اللاجئين، حيث يعيش منذ عامين وأربعة أشهر. وبنظرات شبه فارغة قال اللاجئون إن الشعور بالعزلة يعززه موقع المركز الجغرافي والذي يبعد عن أقرب متجر حوالي 20 دقيقة عبر الدراجة الهوائية، (أو يجب على المقيمين في المركز طلب سيارة أجرة، لا يستطيعون تحمل كلفتها بشكل دائم).

الانتظار سيد الموقف بالنسبة إلى السوداني جمال*، "انظروا من حولكم لا يوجد شيء هنا سوى هذه الحقول والأراضي القاحلة. هكذا هي الحياة هنا، لا يوجد أي نوع من الخدمات الاجتماعية وليست هناك أدنى فرصة لتحسين مستقبلنا أو الحصول على تعليم مثلا".

الأراضي المحيطة بمركز إيواء اللاجئين على أطراف مدينة جرجيس. الصورة: دانا البوز / مهاجرنيوز
الأراضي المحيطة بمركز إيواء اللاجئين على أطراف مدينة جرجيس. الصورة: دانا البوز / مهاجرنيوز


هربا من جحيم معسكرات الاحتجاز الليبية، اجتاز جمال الحدود الليبية التونسية الخطرة باحثا عن بلد آمن ومستقر، لكن يبدو أن الحياة في تونس أثبتت له أن رحلة الهجرة لم تنته بعد، ويقول الشاب "نتعرض لمواقف عنصرية في المتاجر أو حتى مع سائقي سيارات الأجرة".

للمزيد>>> تونس: إغلاق مركز إيواء للمهاجرين غير الشرعيين في جرجيس

سوء الرعاية الصحية هو ما يقلق الشاب عبدالله* المتحدر من دارفور، والذي يعاني من انزلاق غضروفي يسبب ضعف عام في العضلات وألم مزمن، "أمضيت ثلاث سنوات في تونس ولم أتمكن من تلقي علاج ملائم. هربت من بلدي بسبب العنصرية، وذهبت إلى ليبيا فتعرضت للسجن، وانتهى بي الأمر في بلد لا أشعر فيه بالأمان".

 صورة من مظاهرة احتجاجية للاجئين أمام مقر مفوضية اللاجئين للمطالبة بتحسين وضعهم وتسريع الإجراءات الإدارية. الحقوق محفوظة
صورة من مظاهرة احتجاجية للاجئين أمام مقر مفوضية اللاجئين للمطالبة بتحسين وضعهم وتسريع الإجراءات الإدارية. الحقوق محفوظة


جاسم الذي يبلغ من العمر 23 عاما، يوافقه الرأي ويقول "أنا أعاني من التواء الأمعاء، ولا توجد متابعة لحالتي الصحية، وبسبب ذلك لا أستطيع العمل حتى لو أردت ذلك"، يقاطعه عبدالله قائلا "الحياة هنا تقودنا إلى الجنون".

الشباب السودانيين الثلاثة لديهم إقامة رسمية ومعترف بهم كلاجئين من قبل مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. لكن ذلك لا يحسّن وضعهم في بلد لا يوجد فيه قانون للهجرة وللجوء أو سياسة لإدماج اللاجئين، باستثناء توقيع الحكومة التونسية على بضع اتفاقات دولية بهذا الشأن.

ويتجاوز حاليا عدد طالبي اللجوء في تونس 6 آلاف شخص، فيما حصل منذ بداية العام الحالي 2,951 شخصا على وضعية اللجوء.

صورة بطاقة الحاصلين على حق اللجوء بموجب ولاية مفوضية اللاجئين
صورة بطاقة الحاصلين على حق اللجوء بموجب ولاية مفوضية اللاجئين


الناطق باسم مفوضية اللاجئين يبدي رأيه بتحفظ مشددا على أن "تونس تحترم التزاماتها الدولية"، وأن المفوضية تؤمن حتى لطالبي اللجوء الذين ينتظرون ردا على طلبهم نوعا من "الحماية" عبر إعطائهم وثائق تعترف بها الدولة وتجنبهم الترحيل أو الاحتجاز. وأكد راغان أن المفوضية تقدم عروض عمل بشكل دائم لاسيما في مجال البناء لكن "الكثيرين يرفضونها".

"لا جدوى من البقاء في تونس لكننا مجبرين"

بصيص الأمل الوحيد بالنسبة إلى هؤلاء الشباب الثلاثة هو برنامج إعادة التوطين التي تشرف عليه منظمة الأمم المتحدة، لكن عبدالله يبدو غير واثق من ذلك "منذ قدومي إلى هذا المركز في العام 2019 لم يحصل سوى شابين فقط على فرصة لإعادة التوطين في بلد أوروبي".

على الرغم من قساوة المشهد، قد يكون عبور المتوسط هو الحل الوحيد أمام هؤلاء اللاجئين، الذين حاولوا سابقا الهجرة عبر البحر من ليبيا وفقدوا أصدقاء لهم غرقا. كما أن رحلة العبور من تونس تكلف حوالي 1500 يورو على الأقل، مبلغ يستحيل أن يؤمنه هؤلاء الشباب، يقول جاسم "لا حياة هنا، فقط نأكل وننام. لكننا عالقين ومجبرين على البقاء هنا".

مرفأ جرجيس حيث تنطلق قوراب المهاجرين إلى إيطاليا أو مالطا. الصورة: دانا البوز /مهاجرنيوز
مرفأ جرجيس حيث تنطلق قوراب المهاجرين إلى إيطاليا أو مالطا. الصورة: دانا البوز /مهاجرنيوز


وتمر تونس في أزمة اقتصادية تلقي بأثرها على التونسيين، وتدفع حتى الشباب التونسي إلى الهجرة عبر البحر المتوسط. وبسبب جائحة كورونا، تضرر قطاع السياحة الذي كان يمثل 14% من الناتج الداخلي الخام، وارتفعت نسبة البطالة إلى حوالى 18%، ما أدى إلى حركة احتجاجات اجتماعية خلال الأشهر الماضية مع تواصل ارتفاع نسبة التضخم إلى مستوى 6% وتدهور القدرة الشرائية.

أفضّل العودة إلى ليبيا. أنا ميت هنا أساسا

في ظل غياب سياسة إدماج اللاجئين في البلد المنهك اقتصاديا، يسعى تحالف من الجمعيات في مدينة مدنين أهم مدن الولاية، منذ حوالي عامين، إلى توفير بعض الدورات التعليمية كاللغة العربية والإنكليزية إضافة إلى ورشات لتعليم الحياكة والمعلوماتية. لكن الظروف المعيشية الصعبة تجعل البعض "حاضرين فيزيائيا فيما ينصب تفكيرهم على أولويات العيش"، بحسب تعبير مريم التي تدير ورشة الحياكة وتعمل في الجمعية وفقا لاتفاقية تعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية.

التونسية مريم تدير ورشة لتعليم الحياكة في تحالف للجمعيات في مدينة مدنين جنوب تونس. الصورة: دانا البوز /مهاجرنيوز
التونسية مريم تدير ورشة لتعليم الحياكة في تحالف للجمعيات في مدينة مدنين جنوب تونس. الصورة: دانا البوز /مهاجرنيوز


في الباحة الأمامية حيث يلهو الأطفال المهاجرين، يجلس شاب وحيدا على كرسيه لإمضاء بعض الوقت بعيدا من غرفته التي يتشاركها مع ثمانية أشخاص، "لا أمل من البقاء في تونس"، يضيف الشاب البالغ من العمر 22 عاما قائلا "هربت من تشاد بعد اغتيال الرئيس هناك وانخراط أخي في المعارضة. هربت خوفا من التعرض للسجن لكني أعتقد أني سأعود إلى بلدي. لا أنسى محاولة الهجرة من ليبيا، كدت أموت في البحر. انتهى بي الأمر في تونس بعد اعتراض خفر السواحل التونسي لقاربنا. أنا لا أريد أن أمضي عمري في السجون ومراكز الاحتجاز. أشعر بالتعب".

يتسع مركز الإيواء الوحيد في مدنين، التي تبعد حوالي 60 كلم عن جرجيس، حوالي 200 شخص في بناء من طوابق عدة فيه قسم مخصص للعائلات أيضا. يتنهد لاجئ سوداني قائلا "لربما الحل يكمن في العودة إلى ليبيا، هناك نستطيع العمل"، يقولها الشاب الذي يبلغ 17 عاما لكن يبدو أن اليأس قد تمكّن منه، فالأسبوع الماضي حاول الانتحار عبر القفز من سطح مركز الإيواء إلا أن أصدقاءه لحقوا به ومنعوه من ذلك.

علاء كان أمضى بضعة أشهر يعمل في منجم ذهب على الحدود التشادية الليبية قسرا، "كنا نعامل كالعبيد هناك"، قبل أن يتمكن من الهرب ويُسجن ويعذّب في ليبيا، ولم يتمكن من الخروج إلا بعد أن دفع خمسة آلاف دينار لمهرب ليبي.

"الوضع سيء هنا، أفضّل العودة إلى ليبيا حيث عبور البحر المتوسط أقل كلفة. على كل الأحوال، أنا ميت هنا أساسا".


*تم تغيير الأسماء حرصا على سلامة الأشخاص



 

للمزيد