صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي فايسبوك لنشطاء خلال الاحتجاجات في مدينة جرجيس
صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي فايسبوك لنشطاء خلال الاحتجاجات في مدينة جرجيس

أدى دفن جثث الشباب التونسيين في مقبرة "الغرباء" في مدينة جرجيس في الجنوب التونسي، إلى اندلاع احتجاجات عارمة، تقودها عائلات ضحايا حادث غرق قارب هجرة سرية، اختفى أثره بعد انطلاق 18 شاباً على متنه، في رحلة هجرة غير قانونية من السواحل التونسية الجنوبية نحو إيطاليا.

 

 محتجين على دفن جثامين أبنائهم في مقبرة "للغرباء"، ومطالبين بمحاسبة المسؤولين على ذلك، نزلت عائلات الشباب التونسيين المنحدرين من مدينة جرجيس إلى شوارع المدينة، مآزرين بالآلاف من سكانها، بحثا عن "الحقيقة المفقودة" في ملف ما يعتبرونه "تخاذلا" في جهود الإنقاذ والبحث، وأيضا دفن جثث شباب من جرجيس دون التأكد من هوياتهم، عوض تسليمهم للعائلات.

عائلة نور الدين كبير، فقدت "أيمن"، شاب في مقتبل العمر، لم يتجاوز 21 سنة. دفع 6 آلاف دينار تونسي ليصل إلى لامبيدوزا آملا في استكمال الرحلة بعدها نحو فرنسا بحثا عن مستقبل لم يوفره الوطن "تونس". لكن الأقدار شاءت أن تنتهي به الرحلة سريعا وهو جثة هامدة بمقبرة "الغرباء" في مدينته غير بعيد عن منزل أسرته. بعد بحث طال أمده منذ انقطاع أخباره عن عائلته، التي لم تعرف أو تشجع على خوضه هذه التجربة، حسب ما يؤكده خاله في حديثه لمهاجر نيوز، لكنها اضطرت لتواجه ألم فقدان مضاعف.

يحكي نور الدين أن "أيمن ابن أختي، لم يذهب في هذه الرحلة لوحده، رافقته في القارب نفسه ابنة عمه ملاك البالغة من العمر 26 سنة". تم العثور على جثتها أولا بعد أكثر من عشرة أيام من البحث عنهما، بعد أن طفت على الشاطئ. يقول نور الدين "بحثنا مطولا عن جثة ابن أختي كذلك، وتوصلنا بمعلومات وصورة تثبت أنه تم العثور عليه سابقاً، ودفن في مقبرة الغرباء دون أن تخبرنا السلطات بذلك، رغم أننا أبلغنا عن اختفائه ونملك الأدلة الكافية على كل هذا".

صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي فايسبوك لعائلات ضحايا حادث الغرق خلال الاحتجاجات في مدينة جرجيس
صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي فايسبوك لعائلات ضحايا حادث الغرق خلال الاحتجاجات في مدينة جرجيس


لم يتم تحديد هوية جثت الشباب الأربعة الذين تم العثور عليهم بعد حادثة الغرق، بل تم دفنهم في مقبرة للغرباء في المدينة دون محاولات من قبل السلطات المختصة التواصل مع العائلات أو تأكيد الهويات حسب ما يحكيه نور الدين، وهذا أكثر ما أجج غضب الأهالي وسكان المدينة عموما. "أم أيمن في حالة نفسية صعبة، ما حل بابنها بسبب الهجرة غير القانونية، وما حصل لجثمانه بسبب إهمال السلطات دمر نفسيتها تماما" يقول نور الدين. مؤكدا أن العائلة حصلت على إذن قضائي بنبش القبر بعد بحث مطول، وتم التعرف على الجثة، ليتم نقلها إلى قبر آخر في مقبرة المدينة، وتتم بعدها إقامة مراسم الجنازة.

 مطالب بـ "إنقاذ الشباب من التهميش والغرق"! 

أكد نور الدين كبير أنه قد تم إلقاء القبض على المهرب الذي خطط لخروج القارب محملا بـ 18 شخصا من جرجيس في 21 أيلول/سبتمبر الماضي، وهو رهن الاعتقال حالياً في انتظار محاكمته. ويذكر المتحدث أن الأهالي خرجوا إلى الشوارع احتجاجا على ما آل إليه الوضع في جرجيس، قائلاً "كما عملت السلطات على إنشاء مركز إيواء ومقابر للغرباء نطالب بمركز إنقاذ، ومركز آخر للتحليل الجيني لتتعرف أسر ضحايا حوادث الغرق على جثت أبنائها، ولتفادي أن يدفنوا "غرباء في وطنهم".

بالموازاة مع ذلك، يطالب المتحدث "برفع التهميش الكبير الذي يطال الجنوب التونسي، وإنقاذ مستقبل الشباب بإنشاء المدارس ومراكز تكوين و مرافق للترفيه أيضا، ليجدوا بديلا عن التفكير في الهجرة من بلد لا تمنحهم أملاً"، حسب تعبيره. مؤكدا أن "احتجاجاتنا سلمية ولا نطالب إلا بالحقيقة ومحاسبة المسؤول عن الوضع الذي وصلت إليه الجثث"، مؤكدا أن 11 جثة مفقودة ما تزال مفقودة إلى الآن.

 ويؤكد العديد من الأشخاص الذين تم التواصل معهم في جرجيس من قبل مهاجر نيوز، أن البحارة التونسيون في المدينة الواقعة في الجنوب التونسي، كانوا أول من بدأ جهود البحث واكتشفوا جثتين في البحر وقاموا بإخبار السلطات.


محاسبة كل من ثبت تقصيره وتورطه!

"أن تدفن جثامين شباب جرجيس في مقبرة للغرباء أمر لم تستسغه العائلات ولا أهالي جرجيس عموماً"، هذا ما يؤكده المحامي لزهر زريدات، واحد من هيئة دفاع تتكون من 12 محاميا من مدينة جرجيس، بادروا للاتصال بالعائلات وجمعيات المجتمع المدني التي تنشط في مجال محاربة الهجرة السرية والإنقاذ، للتنسيق معها مباشرة بعد تأكيد حادثة غرق القارب التي أودت بحياة 18 شاباً من أبناء المدينة.

 يؤكد المحامي زريدات أنه بعد التوجه بعرائض للمحكمة، قررت السلطات فتح محضر تحقيق في الحادثة فوراً، للبحث في ملابسات القضية منذ يوم غرق القارب مروراً بالأيام التي تلته ولم تبذل خلالها الجهود الكافية لإيجاد الجثت وتحديد هوياتها إلى غاية دفن جثامين الشباب التونسيين في مقبرة "الغرباء" في جرجيس.

وتنتظر العائلات تحديد تواريخ الجلسات التي سيتم خلالها استدعاء مختلف عناصر السلطات التي لها علاقة بالموضوع للاستماع لها في المحكمة، من أجل تحديد أوجه التقصير ومحاسبة المسؤولين عنه. "ستحضر هيئة الدفاع لمآزرة العائلات ومتابعة كل من ثبت أنه تسبب في تقصير ليصل الوضع إلى ما هو عليه، العائلات تطالب بمعرفة الحقيقة، حقيقة ما حصل للقارب؟ والحصول على رد حول ما حصل للجثث منذ غرق القارب إلى غاية دفنها"، يقول المحامي زريدات. مبرزا أن المحاسبة ستشمل كل طرف كان له تدخل في القضية، "من البلدية والسلطات المحلية إلى النيابة العامة التي أصدرت قرار الدفن".

احتجاجات سابقة لعائلات شباب تونسيون اختفوا خلال محاولة الهجرة غير القانونية عبر البحر في تونس العاصمة. الصورة: خاصة
احتجاجات سابقة لعائلات شباب تونسيون اختفوا خلال محاولة الهجرة غير القانونية عبر البحر في تونس العاصمة. الصورة: خاصة


وأوضح المحامي أن "الإخلالات ستظهر كلما تقدم البحث، صحيح أن هناك تركيز حاليا على بعض أوجه التقصير الواضحة، لكن المسؤولية سيتحملها كل من تبثت مسؤولية تقصيره في التعاطي مع هذه الفاجعة". وذكر المتحدث أن مآزرة هيئة الدفاع لأهالي الضحايا هي مآزرة لمطالب مشروعة وقانونية مؤكدا أن الاحتجاجات السلمية التي يخوضونها لا تخرج عن هذا الإطار، بالإضافة لمطالبة السلطات بالتحرك لوقف ظاهرة الهجرة غير القانونية، وإيجاد سبل ناجعة لإنقاذ شباب تونس من التهميش الذي يدفعهم لاتخاذ قرار الهجرة في غفلة من عائلاتهم.

 عائلات ضحايا 2011 يشكون بوجود جثامين أبنائهم بمقابر "الغرباء"!

لطيفة الولهازي، شقيقة "رمزي"، شاب اختفى في البحر منذ 2011، في خضم أحداث "ثورة الياسمين" التي شهدتها تونس. تتسائل اليوم إن كانت كل الجهود التي بذلتها العائلة قد ضاعت سدى، بينما جثة أخيها قد تكون في إحدى مقابر "الغرباء" في أرض الوطن.

تقول لطيفة في حديثها لمهاجر نيوز، أن جهود العائلات وصوتها لم يُسمع يوماً من طرف السلطات، لتقرر أمهات الضحايا التكتل في جمعية قانونية للمطالبة بتكثيف الجهود لمنع "قوارب الموت" من الإبحار نحو المجهول محملة بشباب تونس، وأيضا لتكثيف جهود الإنقاد والبحث عن المختفين. يوجد مقر الجمعية بتونس العاصمة، لكن أعضاءها، وهم أمهات وعائلات الشباب المختفين، من مختلف المدن التونسية.

لطيفة الولهازي تحمل صورة أخيها أما البحر بعد جهود كبيرة في العثور على جثمانه. الصورة: خاصة
لطيفة الولهازي تحمل صورة أخيها أما البحر بعد جهود كبيرة في العثور على جثمانه. الصورة: خاصة


وفي حديثها عن حادثة الغرق في جرجيس وما تلاها من احتجاجات إثر دفن الشباب التونسيين في مقابر للغرباء، حملت المتحدثة المسؤولية لوالي المدينة والمستشفى والمسؤول عن المقبرة وكل من سمح بدفن جثت لم تحدد هويتها. مؤكدة أن هذا التقصير تسبب في شكوك لدى كل الأسر التونسية التي اختفى أبناؤها خلال محاولاتهم الهجرة سراً، ويتسائلون اليوم في أي مقبرة للغرباء قد دفنوا، حسب تعبيرها. مؤكدة أن عائلات الشباب المختفين منذ سنوات، ستطالب بتفتيش مقابر الغرباء بحثا عن جثامين أبنائها.

يذكر أن الاحتجاجات التي اندلعت في جرجيس، أدت إلى مقتل شاب بعد اشتباكات مع الشرطة. وقد اضطر الرئيس التونسي، قيس سعيد، للتدخل والحديث عن الموضوع بداية هذا الأسبوع، خلال لقاء برئيسة الوزراء، نجلاء بودن. وأكد الرئيس أن السلطات تبذل جهودا للعثور على المفقودين في هذه المأساة وتسعى لمحاسبة كل المتورطين. وطلب من وزيرة العدل، ليلى جفال، فتح تحقيق عدلي في ملف الهجرة "ليعرف التونسيون والتونسيات الحقيقة كاملة وليتحمل من كان وراء هذه الفواجع تبعات إخلالاته وتقصيره".

ماجدة بوعزة

 

للمزيد