يقبع كثير من المهاجرين في مخيمات عشوائية شمال فرنسا، وسط ظروف عيش قاسية، منتظرين اللحظة المناسبة للعبور إلى المملكة المتحدة. هم مصرون على العبور برغم الاتفاقات والآليات والسياسات التي تمنع مجيئهم، فما دوافع ذلك الإصرار وما أسبابه؟. زار فريق مهاجر نيوز مخيما بالقرب من منطقة لون بلاج شمال فرنسا وسأل المهاجرين المقيمين عن ذلك.
لوّن سواد حالك عينيها ماحيا الخيط الفاصل بين الحدقة والقزحية، وزاد رونق نظرتها إجابة نطق به فمها المختبئ تحت شال برقة، عندما سمعت سؤالنا.
أخائفة من العبور؟ ”لست خائفة ولدي أمل بالوصول إلى المملكة المتحدة“.
تمضي أمل* (13 عاما من السودان) أيامها في هذا المخيم، مع أخواتها الثلاثة وأخيها وأمها. هربت العائلة من دارفور في السودان منذ نحو شهرين. قطعت بلدانا أفريقية عدة وصولا إلى باريس ومن ثم إلى المخيم، بين بلدة لون بلاج وغراند سانت في منطقة دنكيرك الفرنسية. وصلوا إلى هنا منذ خمسة أيام، وينتظرون منذ ذلك الحين اتصالا من المهرب ليعبروا إلى المملكة المتحدة.
هذا حال معظم قاطني المخيم، الذين يبلغ عددهم أكثر من 600 شخص وفق منظمة ”أطباء العالم“، أو أكثر من 450 شخصا وفق متطوعة في جمعية ”هيلب فور دنكيرك“ التي تساعد المهاجرين في الموقع، إلى جانب جمعيات أخرى مثل أشيرو، وروتس والصليب الأحمر وغيرها.

ينتظرون جميعهم في مخيم ليس واضح المعالم. تقطعت أوصاله على نحو عجيب. تراه يمتد وسط منطقة صناعية، قسم منه على طرفي سكة حديد، فوق أرض موحلة مشبعة بالماء فصلت بين أجزائها حواجز من الباطون. وقسم أخر على الطرف المقابل مطل على شارع رئيسي وثالث مترام على طرفي جسر يودي إلى مركز مدينة دنكرك، غزته الأشجار التي تبعثرت من تحتها الخيام.
السياسة وخطة رواندا ليست رادعا كافيا
اخترنا المكان الأوّل، لمحنا بداية مهاجرين واقفين فوق تلة ترابية ارتفعت عند مدخله، وقف بينهم علي (24 عاما). لم يعرف الشاب الإيراني ذو الشعر الأسود الكثيف البلدان التي مر عبرها وصولا إلى باريس ومن ثم إلى هذا المخيم، ”كنت مغلق العينين“، لكنه علم جيدا بوجهته الأخيرة، المملكة المتحدة.
ينتظر الشاب اتصال مهربه منذ خمسة أيام. لم يخل انتظاره من مشاكل ولا سيما مع الشرطة التي احتجزته يوما كاملا للاشتباه بأنه مهرب، وهو أمر يحدث مع كثير من المهاجرين. بقي مع ذلك مصرا على إتمام وجهته ”سأذهب بأي طريقه ومهما كان الثمن“. أجاب بعفوية ومن دون تفكير مسبق على الرغم من معرفته بالسياسات الجديدة الفرنسية والبريطانية ولاسيما خطة رواندا، التي تعهد رئيس الوزراء البريطاني الجديد، ريشي سوناك بتطبيقها، أي بنقل المهاجرين الوافدين إلى المملكة المتحدة على نحو غير شرعي منذ بداية العام إلى رواندا، على الرغم من اعتراض المنظمات الحقوقية والجمعيات وانسحاب شركة طيران ”بريفليج ستايل Privilege Style“ التي كانت مسؤولة عن تسيير رحلات الترحيل.
لم يرخ السؤال عن الخطة بثقله على أحمد*، الواقف إلى جانب علي، ما زال الشاب العشريني مصرا على المضي هو الآخر، بصرف النظر عن المتغيرات الدبلوماسية والسياسية الجديدة. انطلق الشاب الأفغاني من بلدته ليلة سقوط كابول 15 أب/أغسطس 2021. مر الضابط السابق في القوات الأفغانية بالنمسا قبل وصوله إلى باريس ثم إلى هذا المخيم. يريد العبور لإعالة عائلته المختبئة في أفغانستان، وتأمين نقود للدائنين الذين أعطوه المال ليكمل طريق الهجرة. مضيفا ”تأثّرت بخبر غرق 31 مهاجرا العام الفائت لكنني سأعبر البحر“.
نطق يوسف الذي وقف بين علي وأحمد بشيء مشابه، لكنه أكثر واقعية بالنسبة إليه ”إننا (القادمون من أفغانستان) ميتون أصلا“ وليس هنالك ما يثير الخوف بعد كل تلك المعاناة التي عاشوها. وأكمل الشاب الذي احتلت طالبان قريته ”كابيسا“ بأكلمها "أنتظر اتصالا من المهرب، كل يوم يقول لي غدا ولم يات هذا الغد بعد“.

أكملنا المسير لمعرفة المزيد عن رغبة المهاجرين القابعين هنا، وسط برد المخيم ووحله وغيومه الرمادية الكثيفة، وبيئته التي تنعدم فيها أبسط أساليب العيش. لمحنا شاحنة رُكنت لتأمين ماء الاستحمام، وصنابير موضوعة مقابل أسلاك لصقت عليها تعليمات، وخيمة للصليب الأحمر غصت بالمهاجرين، توقفت إلى جانبها شاحنة كتب عليها ”العيادة الطبية المنتقلة“، تقابلها خيمة أخرى عجت بالمهاجرين الواقفين ريثما تشحن هواتفهم.
"لا أخاف أبدا من العبور"
تحاول الجمعيات تأمين المخيم، وفق المتطوعة في ”هيلب فور دانكيرك“ ولكل منظمة وجمعية مهمة تقوم بها لتحقيق ذلك، سواء لوجستية أو غذائية أو طبية. ولكن لا يبدو ذلك كافيا، إذ إن هناك قصورا في كل شيء، كما أن المكان يفيض بالمهملات وعربات التسوق والوحل.
توقفنا لحظة عند مدخل تلة ثانية، صعدنا تباعا، فانفرجت أمامنا مساحة صغيرة ترامت فيها الخيم وعربات التسوق وظللتها الأشجار. غلّف هذه القرية الصغيرة التي يقيم فيها غالبا مهاجرون من أفغانستان، أصوات عصافير مختبئة على أغصان الشجر، ومهاجرون على طول المخيم الطافي فوق الوحل، وشاحنات بعيدة تستكمل أعمال نقل الترب والرمل والحجر والبناء في المنطقة.

وقف حكيم (24 عاما) من فوره وحيانا، ثم عاد الشاب الوسيم إلى الجلوس حول نار أشعلها. توجهنا صوبه، وبدأ آخرون يفدون أيضا واحد تلو الآخر ويروون حكاياتهم. بدأ حكيم حديثه محدقا إلى يديه ونيران أوقدت من تحتها ”لا أخاف أبدا من العبور“.
انطلق الشاب من لوغور في أفغانستان منذ تسع سنوات، قضى خمسا منها في إيران وثلاثة في اليونان حتى وصل إلى فرنسا منذ شهرين ونصف. حاول عبور المانش مرتين، عاد القارب إلى الشاطئ أول مرة و”رأيت الموت في المرة الثانية“. أكمل بوجه باسم حي يناقض سيرته عن رؤية الموت ”بقينا في الماء نحو 10 ساعات، طلبنا المساعدة، اتصلنا بالسلطات الفرنسية التي ما انفكت تقول ها نحن ذا قادمون ولم يأتوا. لو بقينا ربع ساعة إضافية في الماء لكنا في عداد الموتى“. جعلت الحادثة حكيم ينكر الخوف ولا يأبه له، لذا سيعبر بصرف النظر عن آليات المنع السياسية واللوجستية القديمة والمحدثة.

إضافة إلى رفض إلغاء خطة نقل المهاجرين الوافدين منذ بداية العام إلى رواندا، وقعت فرنسا اتفاقا جديدا مع المملكة المتحدة متعلقا بحماية الحدود، ووقف عبور المهاجرين من سواحلها الشمالية إلى سواحل المملكة على متن قوارب متهالكة وعلى نحو غير شرعي، بين عامين 2022 و2023.
للمزيد>>> اتفاق جديد بين فرنسا والمملكة المتحدة لمنع عبور المهاجرين
وتضمّن الاتفاق الذي بلغت تكلفته 72.2 مليون يورو، زيادة القوات الفرنسية الذين يسيّرون دوريات على شواطئ شمال البلاد بنسبة 40%، ما يعني وجود 350 رجل أمن فرنسي إضافي يتولى مهمة حماية الحدود، إضافة إلى نشر فرق من المراقبين على جانبي القناة "لتعزيز التفاهم المشترك" وزيادة تبادل المعلومات. وأفاد موقع يورو نيوز تضمن الخطة إنشاء مراكز استقبال جديدة للمهاجرين في جنوب فرنسا لثني الأشخاص الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط عن التوجه شمالا إلى كاليه.
لم يقف الأمر عند ذلك، إذ أكدت فرنسا ووكالة حماية الحدود الأوروبية ”فرونتكس“ استمرار التعاون بينهما ويقضي بمراقبة "فرونتكس" الضفة الفرنسية من بحر المانش جوا في عام 2023.
ولا تقتصر حماية الحدود على الاعتراض أو منع العبور فقط، بل أيضا التفكيك المستمر لمخيمات المهاجرين في كاليه وبا دو كاليه وغراند سانت ودنكيرك. ويطال التفكيك هذا المخيم أيضا وفق المهاجرين والمتطوعة في منظمة ”هيلب فور دانكيرك“. ”يأتي رجال الشرطة غالبا أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس باكرا جدا، يفككون الخيم ويدفعون المهاجرين باتجاه الشارع“. مضيفة أن رجال الشرطة يستغلون المناخ السيء لزيادة الصعوبة على المهاجرين وطردهم. لكن سرعان ما يعود المهاجرون إلى الموقع وإلى روتين انتظارهم اليومي.

اقترب منا طفل صغير، سرعان ما أكمل مسيره مبتعدا باتجاه طريق ضيقة نبعت حولها نباتات كثيفة مختلفة. تبعنا الطفل من فورنا فوصلنا إلى المخيم الرئيسي من جديد. سألنا عن موقع العائلات في المخيم، فأخبرنا مهاجرون بتأمين كثير من العائلات والقاصرين في مساكن منذ نحو أسبوع، ولم يشمل الأمرالجميع، إذ ترغب عائلات بالعودة إلى المنطقة لعبور المانش، خصوصا من ترفض السلطات إيواءهم.
خيام العائلات على هوامش المخيم الرئيسي
وأوضحت المتطوعة الشابة من جمعية ”هيلب فور دنكيرك“ عيش المهاجرين ضمن مجموعات منفصلة، وفق الجنسيات أولا والوضعية العائلية ثانيا، إذ يلحظ وجود عنصرية بين المهاجرين أحيانا.
وتنحى بعض العائلات للابتعاد عن المخيم الرئيسي لضمان أمن أطفالها، وغالبا ما تنصب العائلات خيامها على هامش هذا المخيم أو بالقرب من مكان الأشجار الكثيفة تحت الجسر. وأخبرتنا إحدى المهاجرات بأن الليل قاتم غير آمن في المخيم، وله وجه حالك مختلف عن وجهه الصباحي، مشيرة إلى سماع صوت رصاص أحيانا.
ما زلنا في موقع يبدو خاليا من العائلات، وسط صخب مهاجرين وقف بعضهم تحت خيام كبيرة تحولت إلى نوافذ لطلب الشطائر السريعة، وآخرون وراء طاولات يبعيون عليها الدخان والعصائر وأشياء أخرى.
عدنا لسؤال المتطوعة عن مكان العائلات فأشارت بالقول ”أكملوا المشي على خط واحد هكذا، سترون حاجز باطون، اعبروه وربما ترون بعض الخيام من جهة اليسار “.
أسباب اضطرارية
أكملنا وظهر لنا الطريق، وترامت والخيام والمهملات على أطرافه الموحلة كيفما اتفق، حتى اقتربنا من مجموعة خيم أشعلت نيران وسطها، واجتمعت حولها فتيات، جلس بالقرب منهم مهاجر من تشاد وآخر من تونس.

استقبلتنا شروق* (35 عاما) أخت أمل* بابتسامة عريضة. بادرت من فورها إلى الإخبار عن قصتهم، لمعت عيناها بدموع لم تنهمر عند البدء بالحديث ”القول هناك سلام في دارفور كذبة، هناك عنف وقتل، لذلك هربنا“.
عملت شروق في الزراعة لمساعدة أبويها، ولم تتردد بالفرار مع عائلتها، مشيرة ”لا أخاف على نفسي، أخاف على عائلتي“. كانت أمضت العائلة أسبوعا صعبا في باريس قبل اتخاذها قرار العبور إلى المملكة وكانت لديهم رغبة في البقاء هنا وفق قولها ”رفض طلب لجوئنا هنا، نريد مكانا آمنا فحسب، لهذا سنعبر“.
”سئمت من دارمانان (وزير الداخلية الفرنسي) وماكرون (الرئيس الفرنسي)“
سمعنا صوت ضحك إدريس* أثناء حديثه مع صديقه على بعد مسافة قصيرة، سبب وجود الشاب التشادي المرح (22 عاما) مختلف ولكنه وجيه أيضا بالنسبة إليه ”سئمت من دارمانان (وزير الداخلية الفرنسي) وماكرون (الرئيس الفرنسي)“. أكمل متحدثا بسخرية عن السياسة الفرنسية المسيئة للمهاجرين.
يبدو الشاب واثقا أثناء حديثه العفوي.عاش إدريس خمس سنوات في مدن فرنسية عدة، تولوز وأرليون وباريس، درس الجغرافيا في جامعة ”cergy Pontoise“، لكن ما إن انتهت إقامته الشرعية كطالب (مع بدء انتشارة جائحة كورونا) حتى رفضت السلطات قبول تجديدها. لم يسجل إدريس في الجامعة ولم ير حلا سوا المملكة المتحدة حيث يقيم أخوه.
تعددت جنسيات المهاجرين في المخيم، من كردستان العراق وإيران وأفغانستان والسودان وساحل العاج وسرلنكا والهند والجزائر وتونس وغيرها. لكل مهاجر منهم دافع لاختيار البحر طريقا. أخبرنا بعضهم عن أسباب دفعتهم إلى سلك الطريق الخطرة، ومنها عامل اللغة الانكليزية، ووجود معارف وأقارب في المملكة، إضافة إلى رفض السلطات الفرنسية طلبات لجوء كثيرين، وخضوع آخرين لاتفاق دبلن.
كان الأخير دافع أحمد* من أفغانستان على سبيل المثال، إذ مر الضابط السابق في القوات الأفغانية عبر النمسا وبصم هناك، لذا لم يستطع البقاء في فرنسا واختار أن يكمل وصولا إلى المملكة المتحدة، مضيفا ”ذهبت لأن لدي التزامات وعلي إيجاد عمل بسرعة“.

أحوال الجو تطيل انتظار المهاجرين
تمنت خديجة* أم أمل*، والتي قطعت طريق الهجرة كاملا من أجل سلامة بناتها وعيشهم في بيئة آمنة أن يكملوا تعليمهم في بلد ”حقوق الإنسان“ كما تقول، وأضافت ابنتها شروق* ”إننا مضطهدون لذلك سيساعدوننا“ (في إشارة إلى الحكومة البريطانية) لكنها لا تعلم متى سيحدث ذلك.
رفعت الفتاة السودانية رأسها ناظرة إلى الغيوم التي تكاثفت في السماء” لا يسعنا العبور بسبب حالة الطقس، ربما سنعبر بعد يوم أو شهر، من يدري“.
علا موج البحر في الشاطئ الذي يبعد نحو ساعتين سيرا على الأقدام من المخيم، وعصفت الريح في المكان دافعة الرمال إلى رسم مسارات تضيء كلما لاح وهج الشمس، استلقت على الشاطئ قوارب سوداء، كان رآى فريق مهاجر نيوز مثلها في دوفر البريطانية. هي قوارب اتخذها مهاجرون لعبور بحر المانش.
تغطي شدة البرد المكان الذي ينطلق منه مهاجرون في الغالب، وتمتد متغلغلة في المدينة الصامتة، عابرة إلى مخيم المهاجرين. احتمى بعضهم من شدة البرد بالبقاء داخل خيمهم، وواجها آخرون بلعبة ”كريكيت“ في الخارج، مترامين جموعا من أعمار مختلفة على أطراف المخيم فوق السكة الحديد.

سألنا أم أمل* كيف تختصرين رحلتك؟ فقالت بعينين بارقتين وابتسامة لم تفارق صفحة الوجه السمح ”مأساة ومتعة، مأساة لصعوبة خوضها وقسوتها علينا، ومتعة فقط إن تحقق أملنا أخيرا“.
انطلقت أمل* مع أخواتها للمشي في المخيم، وأخبرتنا قبل ذهابها بأنها تحلم بدراسة القانون في أحد الأيام، ذلك بعد ما شهدت جهود الجمعيات والمتطوعين.
يبدو حال المهاجرين الذين باتوا على مقربة من إتمام الرحلة متحمسين أكثر منهم خائفين، ولديهم أمل بالوصول على الرغم من خطورة طريق المانش وانخفاض درجات الحرارة وقضاء مهاجرين وفقدان آخرين أثناء العبور.
للمزيد>>> تحقيقات في مقتل 27 مهاجرا غرقا: أكثر من 15 محادثة هاتفية مع السلطات الفرنسية دون استجابة
وكان قضى 27 مهاجرا في 24 تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي في المانش بعد غرق قاربهم وبقائهم ساعات في الماء. وكشفت تحقيقات صحفية استقبال السلطات الفرنسية نداءات استغاثة المهاجرين من دون تقديم العون لهم. وسجل موقع مهاجر نيوز شهادات عدة لمهاجرين أكدوا تخاذل السلطات عند طلب المساعدة، واقتراب كثير منهم من حافة الموت.
*الأسماء مستعارة بطلب من أصحابها