وصلت أزمة استقبال طالبي اللجوء في بلجيكا ذروتها خلال الأسابيع الأخيرة، بعد إخلاء السلطات لمبنى مهجورة عاش فيه نحو ألف شخص لأسابيع، وانتهى المطاف بـ200 منهم دون مأوى ليناموا في خيام في الشارع. فما تفاصيل هذه الأزمة؟ وما أسبابها؟ وما هي شريحة المهاجرين الأكثر تضرراً منها؟
موسى أبو زعنونة، موفد مهاجر نيوز إلى بروكسل
"على السلطات البلجيكية أن تقرر إذا ما كانت تريدنا أم لا. نحن عالقون في هذا الحال منذ أشهر. لم يرفضوا طلبات لجوئنا ولم يقبلوها، ولم يتم طردنا من بلجيكا ولم يتم استقابلنا بالشكل المناسب... ما هو الحل؟". بصوت مرتجف وجسد منهك بفعل البرد والحياة في الشارع، تساءل رضا، وهو طالب لجوء فلسطيني يعيش دون مأوى منذ ثمانية أشهر في العاصمة البلجيكية بروكسل.
كان رضا من بين نحو ألف شخص عاشوا في مبنى "لو باليه" المهجور، خلال الأسابيع الأخيرة. وقبل نحو 10 أيام، وزعت السلطات أساور بلاستيكية على طالبي اللجوء في المبنى، وقالوا لهم إنها لفرزهم على مراكز إسكان. وبعد أن خرج الأشخاص من المبنى، دخلت قوات الشرطة وتأكدت من خلوه من أي شخص، قبل أن تترك أكثر من 200 مهاجر منهم دون إيواء، على الرغم من حصولهم على هذه الأساور.

توجه معظم هؤلاء المهاجرين، ومن بينهم رضا، إلى مبنى "لو بوتي شاتو" التابع لـ"فيدازيل"، ونصبوا خيامهم أمامه، على ضفة قناة بروكسل وعلى الجسر الذي يربط العاصمة بضواحيها. وفقاً لسكان الحي والمنظمات غير الحكومية، تزداد أعداد الخيام بشكل يومي، وبات يعيش فيها أكثر من 200 شخص من أفغانستان وبوروندي وفلسطين وغيرها، ذلك على الرغم من البرد القارس وخطورة المنطقة المحاذية لمسار خطر تمر عبره الدراجات الهوائية بسرعة كبيرة.
يقول الرجل الخمسيني "الوضع هنا صعب للغاية، الدولة تتعامل معنا بعنصرية، لماذا لم يتم استقبالنا كالأوكرانيين؟ لو أنني كنت أعلم أن الوضع هنا على هذا الحال، لما أتيت إلى بلجيكا".
للمزيد >>>> بروكسيل: بعد إفراغ مبنى عشوائي من طالبي اللجوء.. مهاجرون يعانون من التشرد
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2021، يعاني نظام استقبال طالبي اللجوء في بلجيكا من أزمة أثرت على كافة التفاصيل المتعلقة بوصول هؤلاء الأشخاص إلى حقوقهم. ووصلت هذه الأزمة ذروتها في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، عندما لم تتمكن بعض النساء الحوامل والأطفال من الحصول على مأوى لدى "فيدازيل"، مما اضطر بعض الجمعيات لاستئجار غرف في فنادق لإيوائهم. فما أسباب هذه الأزمة؟ ومن هم المهاجرون الأكثر تضرراً منها؟ وما عواقبها عليهم؟

"لا نرى أي تغيير إيجابي في المستقبل بالنسبة للرجال العازبين.. هم الشريحة الأضعف في هذه الأزمة"
في الوضع الطبيعي، يطلب المهاجرون اللجوء في مكتب اللجوء في بروكسل، ومن ثم يتم فرزهم على مراكز "فيدازيل" ليقيموا فيها خلال فترة دراسة طلبات لجوئهم، وتمثل هذه المراكز "العنوان البريدي" الرسمي لطالبي اللجوء. وبعد نحو أربعة أشهر، يستقبل طالب اللجوء "البطاقة البرتقالية" التي تسمح له بالعمل خلال فترة دراسة طلب لجوئه. لكن وبسبب هذه الأزمة، لا يصل طالبو اللجوء إلى مراكز الإقامة، وبالتالي لا تستطيع السلطات مراسلتهم ولا يصلون إلى حقوقهم.
تشرح بيانكا مولي، وهي متطوعة في مكتب المساعدة القانونية التابع لمنظمة "Vluchtelingenwerk Vlaanderen"، "هناك مشاكل ثانوية تترتب على عدم الوصول إلى نظام الاستقبال، مثل عدم القدرة على العمل، وعدم الوصول إلى المساعدة القانونية، وبطء عملية الاندماج. ناهيك عن التبعات النفسية على طالبي اللجوء بعد رحلة الهجرة الطويلة".
توماس فيليكينز، المسؤول عن السياسات في المنظمة ذاتها، انتقد الطريقة التي تتبعها الدولة لإدارة الأزمة، والتي ترتكز بشكل أساسي على "مدى ضعف" وضع المهاجر، أي أن الأولوية للأشخاص "الضعفاء"، كالنساء والأطفال والعائلات. يقول فيليكنز "هذا أمر نسبي وغير واضح، ويترتب عليه أن الرجال العازبين هم الشريحة الأكثر تضرراً والأقل وصولاً لنظام الاستقبال. صراحة، لا أرى أي تحسن مستقبلي بالنسبة للرجال العازبين، الحكومة تعتقد أن النظام تشبع بشكل كامل. لكننا نؤمن بوجود حلول ممكنة".
للمزيد >>>> "التقينا في منزل المهرب التركي وتزوجنا".. مهاجران سودانيان في مخيم مافروفوني اليوناني
"من الضروري إيجاد حل سياسي.. يجب أن نتعلم الدرس من أخطائنا"
بالنسبة لدافيد فوغيل، مسؤول المناصرة في منظمة "أطباء بلاد حدود" في بروكسل، ترتبط هذه الأزمة بسببين أساسيين، "يتعلق السبب الأول بأن الدولة أغلقت الكثير من مراكز الاستقبال منذ موجة الهجرة الكبيرة في 2015 (عندما طلب أكثر من 44 ألف مهاجر اللجوء في بلجيكا)، وذلك على الرغم من تحذيراتنا الدائمة من أن موجات جديدة من الهجرة ستأتي إلى البلاد. أما السبب الثاني فهو بطء خروج طالبي اللجوء من نظام الاستقبال، الذي وصل إلى سعته القصوى وفقاً للسلطات (34 ألف ملف). الجهات المسؤولة غير قادرة على إتاحة أماكن جديدة كافية، والبلديات لا تريد فتح مراكز جديدة فيها".
وتابع فوغيل "على عكس ما تدعيه السلطات بأن الأرقام الحالية لطلبات اللجوء غير مسبوقة، فالدولة تمكنت من التعامل مع تدفقات 2015 الكبيرة بشكل جيد جداً، وهذا يضع علامة استفهام على الأزمة الحالية ومسبباتها، في ظل عدم وجود نية سياسية لإيجاد حلول مستدامة".
وفي اتصال مع مهاجر نيوز، أكد بينوا مانسي، المتحدث باسم "فيدازيل"، على ضرورة إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة، وقال "إن عدد الأشخاص الذين يطلبون الدخول إلى شبكات الاستقبال، أكبر من عدد الأشخاص الذين يغادرونها، ما يؤدي إلى حدوث ازدحام وتشبع. يبلغ متوسط مدة إقامة طالب اللجوء في منشآتنا 15 شهرا. كما نحتاج إلى زيادة عدد موظفينا، أحياناً تتواجد لدينا مبانٍ متاحة ولكن نعاني من نقص في عدد الموظفين اللازمين لتشغيلها".
وأشار مانسي إلى أن من 30 إلى 40 طالب لجوء تتم دعوتهم للدخول إلى منشآت "فيدازيل" يومياً، "بعد أسابيع من الانتظار".
ورداً على سؤال حول الفرق بين هذه الأزمة والوضع خلال عام 2015، قال "في عام 2015، كان هناك الكثير من الوافدين ولكن السياق كان مختلفا، وكان الرأي العام أكثر تقبلاً وحرصاً بشأن مصير اللاجئين. كما كانت السلطات المحلية حريصة على التحرك في هذا الاتجاه، من خلال فتح أماكن استقبال على سبيل المثال، أو عن طريق فحص الملفات بسرعة أكبر. افتتحت السلطات بعض المراكز في عام 2015 وأغلقتها بعد ذلك، كان من المفروض الاحتفاظ بهذه الأماكن لتمثل سعة احتياطية. يجب أن نتعلم الدرس".

"تضامن من السكان.. لكن المهاجرين يعانون من البرد واليأس"
وأثناء تواجد فريق مهاجر نيوز أمام مبنى "لو بوتي شاتو"، توقف العديد من المواطنين الذين يقطنون في ذلك الحي، ليوزعوا الأغطية والملابس والطعام على المهاجرين. وقال أحدهم "هم (المهاجرون) منظمون جداً، ومتعاونون أيضاً. قبل أيام أتينا واحتسينا الشاي معهم، كانوا في غاية اللطف".
وبحسب العاملين في المنظمات غير الحكومية الذين تحدث معهم فريق مهاجر نيوز في بروكسل، فإن المواطنين في العاصمة غير معتادين على مشاهدة المخيمات العشوائية في الشوارع، التي باتت تمثل الحل الوحيد والأخير أمام طالبي اللجوء في ظل "تعنت" السلطات، بالإضافة إلى اللجوء إلى المباني المهجورة التي غالباً ما تسارع السلطات إلى إخلائها.
يقول توماس بيلسينير، مسؤول عيادة الطب النفسي التابعة لمنظمة "أطباء بلا حدود" في بروكسل، "إن أكثر من 80% من الأشخاص الذين يلجؤون إلى العيادة هم من طالبي اللجوء (في الوضع الطبيعي من المفترض أن توفر الدولة المتابعة الصحية والنفسية لطالبي اللجوء). إنهم يعيشون بفضل المنظمات غير الحكومية والجمعيات والتجمعات المدنية المختلفة. هؤلاء الناس يواجهون عنف وقسوة حياة الشوارع".
وأشار بيلسينير إلى أن المهاجرين الذين يأتون إلى العيادة، يذكرون تعرضهم للعنف بكافة أشكاله أثناء طريق الهجرة. ويعانون من القلق والحزن وفقدان الأمل، والتفكير في الانتحار واضطرابات النوم والكوابيس، وهذه كلها أعراض "اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب الشديد".
للمزيد >>>> بلجيكا: توافد عدد قياسي من طالبي اللجوء خلال 2022 واكتظاظ في مراكز الإيواء
وبينما كان يقف بجوار خيمته بانتظار الحصول على بعض الماء والطعام، قال غايل، هو طالب لجوء من ساحل العاج يبلغ 25 عاما، "أنا محبط للغاية. لقد قيل لي إن بلجيكا تحترم حقوق الإنسان. أعيش دون مأوى منذ نحو شهرين وأنام في محطات القطار والمباني المهجورة وفي الشارع. لقد كان الطريق إلى هنا متعبا جداً (نجا غايل من الغرق خلال عبور المتوسط). منذ أن وصلت إلى هنا أشعر بعدم الراحة. أنا حقا بحاجة إلى أن أنام جيدا لأشعر بتحسن، وحتى أفكر في مستقبلي. هذا مستحيل هنا".
وأنهى غايل كلامه وهو يستلم وجبة طعام من متطوعين، قائلاً "لكن بدون مساعدة الناس، لن يكون لدينا أي شيء هنا."